علي الجارم
علي الجارم (1881 - 8 فبراير 1949 م) هو شاعر مصري.
انفرد في القصائد التي دعت إلى القومية العربية وإن كان قد أخذ عليه مبالغته في قصائد المدائح الموجهة للملكين فؤاد وفاروق ، وله دور بارز في تجديد الأفكار والمعاني ، وقد احتفى شعره بتاريخ مصر الفرعوني والعربي. إبداعاته الوطنية والشعرية حافلة بصور البطولة للدفاع عن الإسلام والعروبة واللغة العربية.
كان خطيبا فصيح اللسان ، أجاد فن الإلقاء باللغة الإنجليزية واللغة العربية ، اختاره أمير الشعراء لتبادل إلقاء قصائده – أي قصائد أحمد شوقي – مع خطيب زمانه "محمد توفيق دياب".
كتب عباس محمود العقاد مقدمة لكتاب "قصائد علي الجارم" يقول فيها: كان "علي الجارم" زينة المجالس ، كما كان يقال في وصف الظرفاء من أدباء الحضارتين العباسية والأندلسية ، وتجلس إليه فتسمع ما شئت من نادرة أدبية أو ملحة اجتماعية أو شاهد من شواهد اللغة ونكتة من نكت الفكاهة ، هو أديب وافر المحصول من زاد الأدب زاد الرواية الأدبية قديمها وحديثها ، ومن مبتكرها إلى منقولها ، وهو عالم باللغة ، وهو الشاعر الذي زوده الأدب والعلم بأسباب الإجادة والصحة .. نقول عليه .. أديب الشاعر العالم .. وكان شعره زادا لطالب البيان.
الأسرة والبيئة
ولد ونشأ بمدينة رشيد عام 1881م ، اسمه الكامل "السيد علي صالح الجارم" وتقع رشيد على الناحية القصوى من الشاطئ الغربي للنيل ، على فرع رشيد ، تستمد منه ألوانا متعددة من الجمال والجلال وتمزجها بحقائق التاريخ القريب أثناء الحملة الفرنسية على مصر عام 1898م ، والحملة الإنجليزية على مصر 1807 م.
ورشيد مدينة محافظة في جملتها ، ويعتقد أهلها اعتقادا جازما أنهم ينحدرون من قبيلة قريش بالجزيرة العربية ، والبيت الذي ولد فيه "السيد علي صالح الجارم" بيت مبني على الطراز القديم ذي مشربيات عالية تحجب أنظار المارة ، وتنتسب الأسرة إلى "الشيخ إبراهيم الجارم" أحد العلماء يذهب إليه الناس للشكوى من ظلم الوالي التركي ، ووالد علي الجارم هو "الشيخ محمد صالح الجارم" أحد علماء الأزهر والقاضي الشرعي بمدينة دمنهور – عاصمة البحيرة – وتوفي عام 1910م ،
ونشأ "علي الجارم" في ظلال نخيل وعذارى رشيد وفي كنف أسرة متدينة وأهل علم ودين ، ذهب إلى الكتاب حتى سن الحادية عشرة تلقى ما تيسر من القرآن وشيئا من قراءة وحساب ، وبعد الحادية عشرة انتقل إلى القاهرة والتحق بالأزهر وتلقى علوم الدين على يدي "الشيخ محمد عبده" ، وعام 1902م التحق بدار العلوم ، وسافر في بعثة إلى إنجلترا ، وفي "نوتنجهام" درس أصول التربية وعاد إلى تدريسها في مصر بدار العلوم عام 1912م بعد أن مكث في إنجلترا أربعة أعوام ، وقبل أن يعمل بدار العلوم أن قد عين مدرسا بمدرسة التجارة المتوسطة وتعرف إلى "محمود فهمي النقراشي" الذي بقى وفيا على صدقاته إلى أن أغتيل محمود فهمي النقراشي ، وكانت آخر القصائد التي نظمها "علي الجارم" قصيدته في رثاء النقراشي وقام بإلقاء القصيدة ابنه نيابة عنه.
تخرج في دار العلوم عام 1908م وعاد من البعثة إلى مصر في أغسطس عام 1912 ، وبعد عمله بدار العلوم نقل عام 1917م مفتشا ب وزارة المعارف ورقي إلى وظيفة كبير مفتشي اللغة العربية حتى عام 1940 ، وظل وكيلا لدار العلوم إلى أن أحيل إلى المعاش عام 1941م. أصبح عام 1932 م عضوا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة الذي يطلق عليه مجمع الخالدين.
هو والأحداث
منذ أن ولد إلى أن مات عاش علي الجارم فترة عارمة بالأحداث أثرت في حسه القومي والوطني وانعكست على شعره وتوجهاته الفكرية والثقافية دون أن يشتغل بالسياسة ، أو ينتمي إلى حزب من الأحزاب ، عاصر دخول الاحتلال عام 1882م ، تم إلغاء الجيش الوطني عام 1883 وأجبر الاحتلال مصر على إخلاء السودان عام 1884م. وبموت الخديوي توفيق ظهر على الساحة الوطنية شابان .. الخديوي عباس حلمي الثاني ومصطفى كامل ، وتام الاتفاق الودي بين إنجلترا وفرنسا عام 1904 ثم دخلت إلى مشاعر المصريين وأحاسيسهم الوطنية مأساة دنشواي عام 1906 ،
كان عمر "علي الجارم" وقتها 26 سنة.. ويتأهب للتخرج من دار العلوم عام "1908م" واستوعب من أهله ومن حياته كل هذه الأحداث السياسية ، وترسبت في وجدانه ولكنه كان قد قرر أن يحتفظ بالوطنية بعيدا عن الحزبية وبالقومية بعيدا عن أي جماعات سياسية ، وأن يحتفظ في أعماله بالولاء للعروبة والإسلام. وعام 1919مم كانت الثورة الشعبية الكبرى بقيادة "سعد زغلول" ، وكان هو مفتشا للغة العربية بوزارة المعارف ولكنه أفصح المدرسين وللتلاميذ عن أن الثورة الشعبية "وليدة إرادة الأمة عانت من الكبت ومن الاحتلال قرابة أربعين عاما".
عرف عنه أنه كان يكره السياسة ولا يقترب منها ، ولكن "مصطفى صادق الرافعي" اعتبره "الشاعر الرسمي للملك فؤاد" مثلما كان أحمد شوقي شاعر القصر ، وزادت هذه الفكرة عن "علي الجارم" عندما صرح الملك فاروق ، وقال بعض المقربين منه أنه كان يرغب في أن ينعم عليه القصر بلقب "البكوية" مثلما أنعم علي "أحمد شوقي" بهذا اللقب ، وعلى الرغم من علاقاته الحميمة بمحمود فهمي النقراشي إلا أنه لم يدخل في أي نشاط لحزب الهيئة السعدية التي شكلها أحمد ماهر والنقراشي وعبد الهادي بعد انفصالهم عن الوفد.
العربية والعروبة
كان الاهتمام باللغة العربية وبالعروبة محورا رئيسيا عند "علي الجارم" ، وعندما أنشئ مجمع اللغة العربية كان من أعضاؤه المؤسسين ، وأخضع إمكانياته الثقافية في إنجاز العديد من الروايات الأدبية التاريخية ، تقوم على التاريخ العربي مثل :فارس بني حمدان ، وهاتف من الأندلس ، ومرح الوليد "في سيرة يزيد الأموي" والشاعر الطموح "المتنبي" وخاتمة المطاف "نهاية المتنبي".
واشترك في إصدار "المجمل من الأدب العربي" والمفصل في الأدب العربي والنحو الواضح في 6 أجزاء والبلاغة الواضحة في جزأين واشترك الأستاذ الجارم في كثير من لجان المجمع مثل:
1. - لجنة العلوم الاجتماعية والفلسفية.
2. - لجنة اللهجات ونشر النصوص.
3. - لجنة معجم ألفاظ القرآن الكريم.
4. - لجنة الأدب.
5. - لجنة المعجم الوسيط.
ونشر عددا من المقالات في مجلة المجمع مثل:
1. - المجلة الفعلية أساس التعبير في اللغة العربية.
2. - المصادر التي لا أفعال لها.
3. - مصطلحات الشئون العامة.
وقدم للمجمع مشروعا بشأن تيسير الكتابة العربية ، وكان من المعارضين البارزين لمقترح الأستاذ عبد العزيز فهمي بإحلال الحروف اللاتينية ، وقال عنه أستاذه "أحمد العوامري" في تأبينه: "انعقد إجماع المثقفين في الشــــرق العـــــربي على شـاعريته الفذة وتناقلوا شعره في أنديتهم وسوا مرهم ، وتدارسوه في مجامعهم ومحافلهم ، وعنيت المجلات وكتب الأدب الحديث به وأفردت الفصول لنقده ،
والفحص عن خصائصه ، والاستشهاد بنوادره". وهو شاعر له باع في القصة الأدبية التاريخية ، ونضيف إلى ما ذكرناه آنفا قصصه حول المعتمد بن عباد وابن زيدون وشاعر ملك وهاتف من الأندلس والفارس الملثم. وأسهم في تحقيق التراث فنشر "البخلاء" للجاحظ ، وترجم عملا مهما عن الإنجليز بعنوان "العرب في الأندلس" ، ويقع ديوان الجارم في أربعة أجزاء ، واهتم الجارم بإصلاح الأخطاء الشائعة في اللغة العربية.
النشاط والتقدير
كان "علي الجارم" على صلة قوية بأمير الشعراء "أحمد شوقي" وشاعر النيل "حافظ إبراهيم" وبعد رحيل الاثنين احتل الجارم الساحة الشعرية مع "عزيز أباظة" وعرف عنه اهتمامه بالتاريخ القومي ، عدم ميله للثقافة الغربية رغم بعثته إلى إنجلترا وترجمته للكتاب "العرب في الأندلس" من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية. وكان صديقه الأثير لديه الشاعر "أنطون الجميل" رئيس تحرير جريدة الأهرام وعندما مات "الجميل" قال "الجارم" في رثائه: يا أخي هل يليق أن تدخل الباب * أمامي وأنت أصغر سنا؟
وقد حزن "علي الجارم" حزنا شديدا لوفاة نجله – أي نجل الجارم- وهو طالب جامعي في ريعان الشباب ، وسرعان ما استرد نفسه بعزيمته القومية التي لم تكن تعرف الخور .. وكان محاضرا ومحدثا من الطراز الأول وانتدب لتمثيل مصر إلى مؤتمرات خارجية كثيرة ، إلى بغداد لتأبين الشاعر الزهاوي ، وإلى لبنان لافتتاح المؤتمر الطبي ومؤتمر الثقافة ببيروت عامي 1943 و1944 ،
وإلى السودان للإشراف على امتحانات المدارس المصرية ، وكان على علاقة وطيدة بالمحامي "محمود خيرت" الذي عرفه عنه أنه كان يقوم بترجمة الروايات لمصطفى لطفي المنفلوطي من الفرنسية إلى العربية ، ثم يصوغها المنفلوطي بأسلوبه الذي عرف عنه في النظرات والعبرات. وقد حصل "علي الجارم" على عدة أوسمة .. منحته مصر وسام النيل عام 1919م ، ومنحته العراق وسام الرافدين عام 1936م ومنحته لبنان وسام الأرز عام 1947م ، وفي بيروت عام 1947 ألقى قصيدته الشهيرة "العروبة".
الجارم شاعرا
كان الجارم شاعرا من المدرسة التقليدية بعيدا عما يعرف بشعر التفعيلة ، وهذا هو سبب إنصراف عدد من النقاد عن تقويم شعره وإلقاء الأضواء عليه. ومن الطريف أنه نظم أول قصيدة له عام 1895م ، وهو في الرابعة عشرة من عمره وآخر قصائده كانت في رثاء صديقه الحميم محمود فهمي النقراشي عام 1949 والتي ألقاها ابنه "الدكتور أحمد الجارم" نيابة عنه. ولقد كان البيت الذي ولد فيه الشاعر له تاريخ ، فقبيل الحلمة الفرنسية كانت تتجه إليه الأنظار فتذهب الوفود إلى الشيخ "إبراهيم الجارم" لتشكوا إليه ظلم الوالي التركي "عمان خجا" وتعسفه في جمع الضرائب ، ويذكر الجارم ذلك في شعره بفخر واعتزاز ، حيث يقول لصديقه وصهره "محمد بدر الدين الرشيدي": عصر بجدي ثم جدك كـــــــان بالعلماء زاهر سهرا فنام البـــائسون محصنين من المخاطر
وظل الجارم يفاخر بأن جده "الشيخ إبراهيم الجارم" حرص على ألا يزوج إحدى بنتيه "رقية وآمنة" للجنرال مينو عندما تطلع إلى الزواج من إحداهما.. وسارع الشيخ بالعقد على ابنتيه للشيخ "عثمان سنابك" و"الشيخ حسني أبو السعود" رغم أنهما كانا طالبان فقيرين . وانصرف الجنرال "مينو" للزواج من "زبيدة" والتي أخذها معه إلى فرنسا بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر. ونشأ الشاعر في ظل نخيل رشيد ، وعلى ضفاف النيل وبين الخمائل وغرد الشاعر قائلا:
أرشيد يا بلدي ويا ملهى الصبا بني وبين مدى الصبا أعوام أيام لي في كل سرح نغمة وبكل ركن وقفة ولما ألهو كما تلهو الطيور حديثها شدو ورف جناحها أنغام والشاعر هنا في حديثه عن مسقط رأسه ومرتع صباه يذكرنا بالشاعر محمود حسن إسماعيل بهيامه بقريته "النخيلة" ، ويذكرنا بالشاعر فوزي العنتيل بعشقه لقريته "علوان".
دار العلوم
وقد انتقل عشق الشاعر وهيامه بمسقط رأسه ونشأته وصباه إلى المعهد العالي الذي صقله وعلمه ، وانتقل بعد الحادية عشرة من عمره إلى القاهرة مع شقيقه الشيخ محمد نعمان الجارم والتحق بالأزهر ، وسكنا في درب السلحدار بحي الأزهر غرفة بسطح أحد البيوت. وكان من بين زملائه الدكتور طه حسين والأستاذ أحمد أمين ، ومن الأزهر التحق بدار العلوم في عام 1902م ، واعتبرها الشاعر موئل العربية ففيها تحيا وفي غيرها تموت ، ووجد في دار العلوم خير طلاب الأزهر الذين يتذوقون الأدب ، وهام "علي الجارم" حبا بمعهده الجديد وبأساتذته:
هي في مصر كعبة بعـــــــــث الشر ق إليها طوائف الركبان قد أعادت عهد الأعاريب في مصر إلى ناعم من العيش هاني وأطلت من الخــــــــــــباء عليهم فســــبتهم بسحرها الفتان
وكان "علي الجارم" وهو طالب بدار العلوم يقوم أحيانا بإلقاء بعض الدروس التي يعهد بها إلى أستاذته .. يقول في ذلك أستاذه أحمد العوامري:
كان علي الجارم زعيم الفصل علما وذكاؤه حاضر البديهة ، قوي المنطق حتى لقد كنت أعهد إليه أحيانا وأنا مطمئن النفس في أن يلقي بعض دروسي وأنا حاضر بعد أن أكون قد دفعتها إليه من قبل ، فكان يعدها إعداد الفطن ويلقيها إلقاء من درب بالتدريس.
صفات شخصية
من الغريب أن يعرف عن "علي الجارم" أنه يكثر من التحسر على شبابه الذي ولى ، وأنه يخاف من الطبيب ، وبقول إنه يتحسر على شبابه انه فوجئ بتقدم السن ، وأنه قتل فترة الشباب بالوقار والسلوك الجاد ، وكان يتمنى أن يعود الشباب يوما ليخبره بما فعل المشيب ، ويخاف أن يتعرف الطبيب على مرض جديد لم يكن يعرف عنه شيئا.
وكان من الأطباء الذي يأنس إليهم "الدكتور سيد عفت" ، وإذا كان يتحسر على شبابه ويخاف من الطبيب فإنه كان يفزع لفكرة الموت:
آه لو يشتري الزمان قريضي بسنين تعد لي في حسابه
ما الذي تبتغي يد الدهر عني ودمي لا يزال ملء لعابه
ومازال الشاعر في صراع بين ذكريات الشباب ، وقسوة المشيب ، ولا يجد من يشتري قريضه بالسنين التي يتمناها حتى يرسل أنفاسه الأخيرة وابنه "بدر الدين" يلقي قصيدة الجارم في رثاء صديقه محمود فهمي النقراشي في مساء 8 فبراير 1949 عن ثمان وستين سنة.
صدر له من الدواوين ديوان الجارم " في أربعة أجزاء عام 1938 " سبات الخيال " 1961 بالإضافة إلى عدد من القصص التاريخية والمؤلفات الأخرى